مقالات

بابيت – كارين بليكسين

 

 

محرابي

 

رصدت رواية “وليمة بابيت” لـ كارين بليكسين (الاسم المستعار: إيساك دينسين)، نشأة الشقيقتين، هما ابنتا رجل دينم متقشف، رباهما على التزمت والتقاليد الاجتماعية التي تدحض الملذات وتتحاشى الشهوات وتدعو لحياة الزهد في بيت بسيط.

 

هي قصة امرأة فرنسية تدعى بابيت، كانت تعمل في أحد أرقى مطاعم باريس خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتهاجر إلى الدانمارك، حيث تعمل خادمة عند فتاتين عانستين، ابنتي قس بروتستانتي، شديدتي التحفظ دينياً والتقشف اجتماعياً. وعندما ربحت بابيت الجائزة الكبرى في اليانصيب وقيمتها عشرة آلاف فرنك ذهب، قرَّرت صرف المبلغ على إقامة وليمة تكريماً لذكرى والد الفتاتين، سابقا كانت هذه الوليمة مقتصرة على الشاي والقهوة، لكن هذه المرة قررت بابيت إعداد وليمة وعشاء فرنسي راقي، محملة بكافة وأغلى أنواع الأطعمة والتي يعدها أهل القرية من المحرمات، فسيطر الغضب والشكوك الأختين اللتين تعتقدان أن بابيت ستخرب أهل القرية وستدمر مبادئها.

 

لكن بانتهاء الوليمة تتغير نظرة الأختين إلى كل خياراتهم السابقة، ويفكران في طبيعة حياتهما وتبادرلت لهما تساؤلات عدة حول ماذا لو اختارتا القلب والتمتع بشبابهما بدلا من الالتزام والاعتكاف. وتعترف لهما بابيت في نهاية الوليمة بأنها لن تغادر القرية وأن ما دفعها لإقامة مثل هذا الحفل هو أنه “في العالم كله توجد صرخة صادرة عن قلب فنان تقول أعطني الفرصة، لكي أبذل ما لدي“، وأرادت فقط أن تعبر عن شكرها لهن بالقيام بعمل صادر من القلب.

 

ترمز الوليمة إلى الصراع الداخلي بين المعتقدات وملذات الحياة، وبين أثر الخيارات الفردية والقرارات وتأثيرها على الحياة. وأبدعت الكاتبة في وصفها للأكل والطعام كذا استعملها له كوسيلة للتعبير عن أفكارها وعرض قضايا الإنسان وهمومه وانشغالاته، والصراع الأبدي بين إنكار الذات والملذات الحسية.

 

قد يكون طريق الأدب العظيم إلى الشاشة الكبيرة مرصوفا ببعض التنازلات، وهناك العديد من الشواهد والأمثلة عن فشل السينما في تصوير روائع الأدب على شاشتها، لكن قصص المؤلفة الدانماركية كارين بليكسين تخدمها الشاشة الكبيرة.

 

الفيلم “وليمة بابيت” الذي أخرجه غابرييل أكسل، حاز على جائرة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1987. برع المخرج في تضمين فيلمه الهادئ بإيقاعات وترانيم وأناشيد دينية مفعمة بالأصوات العذبة الغناء الأوبرالي في فيض من الكلمات والمعاني والدلالات البليغة. كما إن كاميرا مدير التصوير أدركت بحدس وفطنة تلك القيمة الجمالية التي تنطوي عليها بيئة المكان ومكوناته المحاذية للبحر الذي يشكل لها نافذة تطل منها القرية على العالم الآخر عدا عن تلك الأجواء الطبيعة وفضاءاتها الغنية بالأشجار والجبال والطرق التي تسلكها العربات.

 

أحكم المخرج إدارته لفريق عمله من الممثلين الذي أغلبهم من المسنين في أدوار ثانوية وقدمهم في أكثر من حقبة زمنية بإلمام بألوان البساطة والأزياء وقطع الديكور والإكسسوارات التي تشير إلى تلك الفترات الزمنية المتعاقبة في بناء درامي سلس وجذاب بإحساس جمالي بديع عن خفايا تدور حول مصائر الأفراد ومغزى الوجود الإنسان كحالة إشعاع بارقة فرح للآخرين.