مقالات

أنشودة العنف الختامي

مهاب نصر:

متى يحدث أن ينظر إلى الحياة الإنسانية من خارجها كما لو كانت مجرد فرضية، حلم، قصة منتهية؟ في عمل روائي يبدو هذا مدخلا ذا فأل سيئ.

في حوار له يذكر الروائي البرازيلي جوكا رينيرس تيرون؛ صاحب رواية «حزن نمر الثلوج الهائل» أن مسائل كالخير والشر لا يمكن أن تكون واضحة في مجتمع لم تكتمل ديموقراطيته، ومن ثم ستعثر على نوع من الشر غير المبرر أو المفهوم.

ورقة خضراء عائمة

في الرواية ثمة انقطاع للأصول والجذور، كأننا أمام شيء يشبه أوراق خضراء عائمة على سطح نهر. إن الحياة التي ما تزال تبدو في خضرتها حياة فظة مقطوعة؛ حياة ميتة لو كان لتعبير كهذا أن يفي.

ليس لهذه الرواية بداية واحدة، فقسم منها يقع على أرض الواقع، والآخر يدور في زمن سابق، زمن الانقطاعات للجماعات الإنسانية المبادة، قصة الشعوب الأميركية التي أبيدت، وقطعان الجاموس التي عاد ما تبقى منها إلى موطنه ليلقى حتفه.

راوي الأحداث، المنحدر من أب يهودي مهاجر، هو كاتب المحاضر في قسم الشرطة في مدينة برازيلية؛ مدينة تعج بالمغتربين والمهاجرين، والغيتوهات المغلقة، وبسكان الأرصفة من متعاطي المخدرات، وبالمطاردات العنيفة بين أفراد الشرطة الملولين على صهوات الخيول، والمشردين المدمنين. هنا وجهان متقابلان إذن: التاريخ المندثر لحياة أولى، والإنسان المدوّن؛ حياة الطبيعة وحياة السجّل.

ما الذي يربط بين العالمين؟ تدخل الأسطورة هنا (الشبيهة بالأساطير المؤسِّسة) وهي التي تحمل الرواية اسمها «نمر الثلوج». إنه نمر نادر، آخر أفراد سلالته، العائش منفردا على قمم الجبال الباردة، والذي يوما ما يفتنه الصوت البشري؛ صوت امرأة تندب في مراسم جنائزية. نعثر هنا على ما يشبه أسطورة البدء الإنسانية نفسها بتفاصيلها: الإغواء والحيّة الناصحة، والهبوط من الجنة.

فتنة الصوت

ثمة مناخ كئيب مقبض، يترافق والاحداث التي تكشف عن نفسها مختلطا فيها حس رواية الإثارة والجريمة، وعالم الأسطورة، يرتبط بوشيجة مأساوية بماض حاضر، ولكن استعادته تمثل تراجيديا ختامية. تصاعد الاحداث، وهو ما تكتشفه في النهاية، يشبه الكورال الذي يتوحد صوته في حركة ختامية من سيمفونية ما، يعقبها الصمت.

هل تحدثنا عن الموسيقى؟ عن الصوت الخالص؟ ألم يكن هذا ما فتن الراوي في صورة أمه المتوفاة؛ تلك الصورة الممحوة التي ما عادت تبين ملامحها، والتي لا يستعيد منها الابن إلا صوت غنائها؟ أهي أسطورة «نمر الثلوج» نفسها في نسختها الواقعية؟ «الصوت» أو لنقل الغناء الصافي الخالص، هو هذه الشعرة الدقيقة بين طاقة الحياة الأولية والإنسان التاريخي، إنه الفن بطريقة ما، الجسر بين ظلمتين ونهايتين تلتقيان معا في الختام.

يقر جوكا رينيرس تيرون، في حوار له، بأن خيطي روايته كانا منفصلين أساسا في كتابات أولى، أي قبل أن يضمهما في عمل واحد. هنا معلومات دقيقة عن حياة الحيوان، لكن أيضا، وباختزالات قوية وعنيفة، عن عالم المهاجرين، عن المدينة التي تضم غرباء من دون أن تصنع أي انسجام أو مشترك إنساني.

 في الرواية عنف لا يطاق أحيانا، وبعضه لا يُكتشف إلا في المشهد الختامي الطويل الذي يدور على وقع زيارة جماعية ليلية إلى محمية طبيعية للحيوانات النادرة، ويا لها من إحالة!

نحن أمام ملل ولغات وصلوات لا تلتقي، انتزعت منها الإنسانية ولم يبق إلا القشرة القاسية لـ«الغيتو»، ولإعادة ترسيخ الطبقية، وللأحلام المجنونة والأسرار.

الموت الرحيم

في حياة الراوي نفسه قصة، أو في حياة والديه بالأصح. فزوجة الأب اليهودي فتنته أيضا بغنائها، سمراء من جنس ينقرض هو الآخر ولا يبقى منه إلا الصوت. زواجهما لم ينتج إلا مسخا؛ طفلة مريضة بمرض يأكل أعضاءها، وتعيش في عالم من الظلمة برعاية ممرضة يتبين في الختام أنها تطعمها السم بجرعات بطيئة. ممرضة مهووسة وهاربة من جرائم على شاكلة «القتل الرحيم»، متدينة بلا دين، راعية لهؤلاء المشرفين على الموت، فاتحة أمامهم الطريق ببراءة القاتل المؤمن.

السرد شبه التسجيلي البارد أحيانا في الرواية، يضعنا على مسافة مضاعفة، تجعل العنف غير المبرر أشد وطأة، يضعنا وسط عالم اليوم، عالم يصبح الفعل فيه مفصولا عن الغاية والهدف، ولا تتكئ في الرغبات على معنى يمكن مشاركته.

مصادفة أن أطالع قبل رواية «نمر الثلوج»، رواية أخرى للكاتب البرتغالي جونسالو إم. تافاريس هي رواية «أورشليم». ليس ما يحضر الواحد هنا المقارنة من الناحية الجمالية، لكن سؤال الرواية نفسه: كيف يرى كاتب حديث العالم الآن، من أي جهة يسرده وبضمير من؟ وعلى أي مسافة يقف ليحكي؟ ما يجمع الروايتين هو أنهما في جانبهما الواقعي على الأقل لا يفرضان الدهشة من خارجه. عالم يكاد يكون حقيقيا جدا، ومع هذا فطريقة الوصف، والاستخدام شديد الرهافة للألفاظ، والتراكيب المسنونة، تضعنا أمام هذا العنف الصامت لعالمنا، للجريمة البريئة، والتي تزيدها البراءة إجرامية. وكأنها تفصح عن واقع فقد العنف فيه مسنده، وصار الشر عفويا، مشكِّلا ما يشبه أنشودة ختامية للبشر.

«حزن نمر الثلوج الهائل» صادرة عن دار الخان للنشر والتوزيع، بترجمة محسن الرملي ونهاد بيبرس.