فدوى درويش: عن رواية مساء الفراشة
“هي حكاية عن الموت وعن الحياة غير المكتملة، عن عالم كلّ طرقه وأبوابه موصده. مساء الفراشة هي حكاية فراشات تاهت في ليلة شتائية قاسية ولم تجد أمامها فرصة لحياة أخرى. حكاية الممالك الصدئة في دواخلنا.. هي القصة الصامتة للمدن التي لا يصل الأكسجين إلى أزقتها البائسة، حكاية عن أماكن لا أحد يمكنه أن يرى ما يجري خلف جدرانها..” حكاية فتاة اسمها بروانة، أو فراشة باللغة الكردية، يقودها شغفها بالحياة إلى حتفها، بحكم ممن نصبوا أنفسهم قضاة ووكلاء للدين.
يروي الكردي بختيار علي في روايته “مساء الفراشة” الصادرة بترجمتها العربية عن دار الخان للنشر والتوزيع، قصة أليمة عن الحبّ وجرائم الشرف في مجتمع شرقي. بختيار الذي يعتمد في رواياته أسلوب الواقعية السحرية، يأخذنا في أحداث شيقة ليعري بأدواته الخيالية واقعاً يفوق الخيال في قسوته.
بطلتا الحكاية هما شقيقتان بروانة وخندان (وتعني بسمة) ولهما من اسميهما نصيب، بروانة التي تعشق الطيران والانطلاق نحو حياة جديدة وعالم آخر ترسمه في خيالها، يكون فيه الحب مسموحاً وحقاً مشروعاً، بينما خندان صاحبة الابتسامة الدائمة في مجتمع يعتبر ابتسامة الفتاة إثم يجلب العار، لتقع ضحية تلك الابتسامة وضحية لتمرد بروانة وسعيها نحو أحلامها.
في ليلة من ليالي الشتاء الباردة، وفي تجمع كبير لأهل المدينة والقرى المجاورة، وبفتوى ملاّ كوثر ومع حشد من أنصاره من المتطرفين، حاملين سيف “الدين والفضيلة”، يتم قتل بروانة وصديقتها ميديا على يدي أخويهما، غسلاً للعار، بحكم القوانين الدينية والاجتماعية الصارمة والمتشددة والتي تتعارض مع العيش بحرية.
لتتحول ليلة قتل بروانة في مدينة تجري الدماء في أزقتها، إلى رمز للموت والشتاء، وهي الليلة التي تضع خندان الصغيرة في مواجهة مع الذات ومع واقعٍ غارقٍ في الظلام والحروب.
يروي بختيار أحداث روايته على لسان خندان بعد أن تكبر وعاشت سنوات طويلة وصعبة في مدرسة دينية صارمة حيث يتعين عليها أن تتعلم كيفية قمع روحها وجسدها حتى لا تتمرد وتسلك طريق أختها. في “دار التائبات” تلك كانت تقضي معظم وقتها في مكتبة الدار، وتلوذ بالقراءة لتنقذ عقلها من الاستسلام لقوانينها الجائرة في محاولة من القائمين على الدار لوأد الحلم والتفكير لدى المقيمات فيه. بعد خروجها وبعد انتهاء الحرب، تقرر أن تتحرر من عبء ذاكرتها الذي أصبح يؤرقها منذ ذلك المساء، منذ مساء بروانة الذي شهدت وهي طفلة صغيرة مقتل أختها التي تحب، وأصبح بالنسبة لها تاريخاً يفصل حياتها بما قبله وما بعده. تلجأ إلى الكتابة كوسيلة للشفاء من الذاكرة، وإحياء لذكرى بروانة التي طالما تمنت ألا يبتلعها النسيان. توثق قصة هروب بروانة مع حبيبها فريدون ولجوئهما مع مجموعة من العشاق الهاربين من أحكام القتل، إلى غابة نائية سموها “وطن العشاق”. تستعين بدفتر المعطر الذي عايش تفاصيل حياة سكان ذلك الوادي ودوّن قصصهم وما آلوا إليه، إلى أن قتلوا في هجوم من قبل الأهالي.
في سرد شيق وجميل، يطرح بختيار العديد من الأفكار تخص الحياة والحرب والموت والحب والجمال والفن والدين، لتصبح محور جدل بين الشخصيات الغنية بعددها وتنوعها. إنها رواية مبدعة وعمل أدبي رفيع، طوع الكاتب اللغة بحرفية لنسج عمل أدبي رفيع. قوة في السرد والتنقل بين الأزمنة، والأماكن والشخصيات ووصفها. الرمزية عالية تتطلب من القارئ التحليل والربط.
الرواية تطرح الكثير من الأسئلة عن الحب والدين، وعن “جرائم الشرف”. ويمكن للقارئ أن يستشف بعض الإجابات بعد مقاربة لمصائر أبطال الرواية.
تقول خندان “شعرت أن أكثر الساعات صدقاً في عبادتي هي الأوقات التي أفكر فيها بالحياة والجمال، بالخَلْق وأسرار الإنسان. لكن دوماً كنت أشعر أن رأسي يكاد يتصدع بين حقيقة إلهٍ عظيم نسَق بين جميع تناقضات الكون وخلق توافقاً فيما بينها ورتّب الواحدة إلى جانب الأخرى، وبين إلهٍ يعدّ عقاباً دموياً لأجل رغبات صغيرة وبسيطة لإنسان. كاد رأسي ينفجر من تلك الأفكار”.
وفي مكان آخر تقول: ” كل ما يقودنا إلى حبّ الحياة هو شيء إلهي ”
مساء بروانة هي رواية جريئة تحفر عميقاً في واقع التخلف الذي ساد في فترة الثمانينات من القرن الماضي، في كردستان العراق، في ظل حالة الحرب والفقر التي عانت منها تلك البقعة الجغرافية من الشرق.