ميرفت علي:
يقدِّم الكاتب الألماني الساخر (مارك ــ أوفه كلينغ) في روايتهِ الماتعة الشائقة (كواليتي لاند) إنموذجاً لحياة افتراضية تُهيمن عليها الثورة التكنولوجية في أحدث صرعاتها: هيمنةُ الآلات الحديثة (التي لا تخطئ)، وتحكُّمها بحياة البشر الخطَّائين، المتقاعسين، وذوي العقل المحدود (غير الخوارزمي). لكأنَّنا أمام ثورة صناعية جديدة تأخذ فيها الروبوتات مكان البشر في إدارة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعاطفية، وتتحول الحياة بمكوِّناتها الحية والجامدة إلى مجرد (محتوىً رقمي) كبير مُبرمج بما يلبّي دواعي عصر السرعة، وحاجات الإنسان في أدقِّ تفاصيلها. هنا حيثُ يمكن لمُنتج فائق الجودة تكنولوجياً مثل (الآيباد) المحمول أن يتحكم في المصير الشخصي لحاملهِ، ويحدد مسار التفكير الفردي والجمعي بهيئةِ (الديموقراطية المقنَّعة)، لنكتشف فيما بعد ضلالة الانسياق خلف (وهم) الثورة التقنية التي تجرِّد الإنسان المعاصر من حرية الاختيار والتذوُّق الجمالي، وتسلبهُ الهوية الوجدانية والعاطفية في أقلِّ تقدير.
و (كواليتي لاند) أو أرض النوعية، روايةٌ تعكسُ واقعاً افتراضياً تتغلَّب فيه تقنيات التحكم و السيطرة عن بعد في حياة الناس، و يحلُّ فيه الرجالُ و النساء الآليُّون المبرمجون محل البشر العاديين، معيدينَ الاعتبار إلى تفوق (النوع) و (الجودة) في الأداء و الممارسة الوظيفية على (الكم ) و (الرداءة) التي رسَّختها قيادة البشر للحياة على كوكب الأرض منذ بدء الخليقة(هذا من وجهة نظر صنَّاع التكنولوجيا المعاصرة و مروِّجيها)، و ليس من وجهة نظر الكاتب الذي يقفُ منافحاً عن حقّ الإنسان في تقرير مصيره و الحفاظ على هويَّته البشرية، أقلُّه من الناحية الأخلاقية و العاطفية.
وتستمدُّ الرواية أسباب قوَّتها وبراعتها من عوامل عدَّة أولها: مواكبتُها للخيال العلمي في أبرز تصوُّراته (التطور التكنولوجي الخارق، الذي يُنتظر أن يضع سكان كوكب الأرض موضع الندّ لسكان الكواكب الأخرى، والمُظَنُّ بأنهم سبَّاقون تكنولوجياً، ومالكون لزمام السيادة الكونيَّة) وثانيها: روح التندُّر والفكاهة التي صاغَ بها المؤلف هذه التحفة السردية، فلا يكاد فصلٌ من فصولها يخلو من المفارقات والانتقادات الغامزة اللامزة من قناة دُعاة التطور العلمي والذكاء الاصطناعي. وثالثُها: يُحيلُ إلى الثقافةِ واسعةِ الطيف التي حصَّلها المؤلِّف خلال مسيرة حياته غير الطويلة، وبرزتْ ملامحها وشواهدُها جليَّة بيِّنة للقارئ؛ فكانت مدسوسة في أغلبِ الفقراتِ والانتقالاتِ الحدثيَّة والحوارات، ولم تسلم منها العناوينُ الفرعية والعنوان العام للرواية. إنَّها الثقافة الكمِّية النوعيِّة التي نأت بالقارئ عن الملل والضجر والرتابة رغم طول الرواية اللافت، وتشعُّب أحداثها وتعدُّد محاورها. فالنَّفَس الروائي المديد، مُقترناً بالإمتاع والإقناع والإدهاش، مطعَّماً بالبُنيان الحدَثي المتلاحم المتصاعد سريع الإيقاع، وباقتفاءِ أثر الحداثة في المبنى والمعنى، كلُّها عوامل جعلت من رواية (كواليتي لاند) إضافةً عالية الجودة للمكتبةِ الروائيةِ العالمية، كما للمكتبةِ العربية.