Articles

نحّال حلب، أعراض ما بعد الصدمة

عبدالرحمن حلاق:

في صيف 2016 وصيف 2017 كانت الكاتبة الإنكليزية كريستي لفتيري المحاضرة في (الكتابة الإبداعية) في جامعة برونيل تعمل متطوعة في مركز للّاجئين تابع لليونيسيف في أثينا، وفي هذا المركز رأت الكاتبة وسمعت من الأهوال والقصص ما جعلها تعيش أرق الكتابة فكتبت تقول: (أننا مع الناس، الناس الذين يشكلون مبلغ همنا واهتمامنا أكثر من أي شيء في العالم عندما عانينا من هذه الخسارة الفادحة.) وهي ابنة أبوين لاجئين من قبرص في الأصل.مدفوعة بهذا الحس الإنساني العميق تباشر الكاتبة عملها وذلك بجمع القصص التي رأتها وسمعتها لتصنع منها حكاية تستعرض فيها بعض وجوه الشقاء الإنساني في رحلة البحث عن الأمان، فعجنت الواقع بالمتخيل لتصنع لنا (نحّال حلب) وهي المحاضرة في الكتابة الإبداعية.تنطلق الرواية من نقطة سابقة لنقطة النهاية بقليل ملتزمة بالتعاليم الأرسطية الواردة في كتابه (فن الشعر) فبطل الرواية نوري وزوجته عفراء في مركز خاص باللاجئين في بريطانيا وينتظر قبوله القانوني فيها، أي أنه لم يتبق غير خطوة واحدة للنهاية التي تتمثل بقبوله لاجئاً ووصوله إلى ابن خالته مصطفى صديقه وشريكه في تربية النحل والذي وصل قبله إلى بريطانيا وينتظره بفارغ الصبر، ثم تعود الرواية عبر تقنية الاسترجاع إلى الخلف لترصد أسباب النزوح ومحطاته المتعددة بكل ما فيها من أخطار فتنتقل من حلب إلى تركيا إلى اليونان حيث الجزء الأكبر من الحكاية ثم الوصول إلى بريطانيا جواً. هذا التنامي في الخط الدرامي نراه يتقطع أحياناً ببعض تفاصيل الحدث في مركز اللجوء البريطاني.تسير الرواية في خطين متوازيين يلتقيان في نهاية المطاف عند خاتمة الرواية يتمثل هذان الخطان بفكرة (الوصول) حيث يصل نوري وعفراء في نهاية الأحداث إلى هدفهما المتمثل بلقاء مصطفى في بريطانيا، أما الخط الثاني فيتمثل بوصول نوري وعفراء إلى بعضهما -نفسياً- بعد معاناة شديدة مع مرض (اضطراب ما بعد الصدمة) وقد استطاعت الكاتبة المضي بالخط الثاني بحرفية عالية اعتماداً على تقنية المعلومة المخبأة التي تمنح العمل قدرة تشويقية عالية، وتسهم بشكل فعال في كسر أفق التوقع لدى القارئ.

تبدأ الحكاية في مركز للاجئين في بريطانيا حيث نستمع لنوري وهو يخبرنا بخوفه من عيون عفراء فنعرف أنها عمياء ونعرف كذلك أنها كانت فنانة مغرمة برسم الماء أنى وجدته فهي ابنة الساحل السوري وتزوجت ابن (حلب الشرقية) فانفصلت بجسدها عن بيئتها لكنها بقيت في وجدانها. ومع تقنية الاسترجاع ينتقل نوري (الراوي) لنعرف من خلاله أنه كان قبل الثورة يمتلك هو وابن خالته مصطفى منحلة ضخمة يعمل بها أحياناً مئات العمال، عملا على إنشائها وتنميتها بكل حب وتفان. ومع اشتداد المعارك يخسر مصطفى ابنه في مجزرة نهر قويق التي ارتكبها جنود النظام فيقوم بقتل عدد من الجنود ويفرّ هاربا بزوجته وابنته إلى بريطانيا تاركاً لنوري رسالة يشرح فيها بالتفصيل ما حدث معه ويطلب منه أن يلحق به، في أثناء ذلك يفقد نوري ابنه في انفجار قنبلة ألقيت على حديقة المنزل بعد خسارته المنحلة كاملة فقد أحرقها (المخربون). توافق عفراء على النزوح فيبدآن الرحلة بداية إلى تركيا ومنها إلى اليونان عن طريق البحر، في يوم الانطلاق بالبلم نتعرف صدفة على طفل يرافق نوري في رحلته، ونتلمس في علاقتهما تلك الأبعاد الإنسانية في التعامل، وخوف الطفل ذي الشعر الأسود من ركوب البحر، وعند اشتداد العواصف في البحر نرى الطفل يساعد في تفريغ البلم من الماء الذي تدفعه الأمواج، لكنهم يصلون الجزيرة اليونانية وهناك يفقد نوري الطفل ويبحث عنه كثيراً ولا أثر، فيترك له رسالة ومبلغاً من المال على أمل عودته وقد كتب له أن اسمه صار (سامي) واسم أبيه نوري وأمه عفراء .في أثينا يواصل بحثه عن محمد ضمن مركز الأمل لتجمع اللاجئين وفيه تستعرض الكاتبة قصص بعض اللاجئين الهاربين من جحيم بلدانهم سوريون وأفغان وغيرهم وتحكي لنا عبر الراوي ما يتعرض له هؤلاء البشر من استغلال وما يُرتكب بحقهم من جرائم إضافة لما يرتكبه بعضهم من جرائم أيضاً، في تصوير حيّ لواقع مرير يعيشه النازح. يتمكن نوري في نهاية المطاف من مغادرة اليونان بعد دفع مبلغ خمسة آلاف دولار لمهرب يوناني استغله لمدة شهر بالعمل مجاناً في توزيع المخدرات. وطيلة مراحل الرحلة يتواصل نوري مع مصطفى عبر الإيميل، يخبره مصطفى بأنه بدأ العمل بمشروع صغير لتربية النحل _ عشقهما الأثير_ ويخبره نوري بمحطاته التي يصل إليها، وعند وصوله إلى بريطانيا يتأخر نوري في مراسلة مصطفى منتظراً تجاوز مرحلة المقابلة للحصول على حق اللجوء، وفي أثناء ذلك نتعرف على الاضطرابات النفسية التي يعيشها حيث تختلط لديه الأحلام والرؤى مع الواقع فنراه تارة بمواقف تذكره بالصدمة التي تلقاها في حلب أثناء انفجار القنبلة بجسد ابنه سامي فيعيش شعور تكرار الحدث وتنتابه موجة رعب حتى من طيور النورس التي يظنها طائرات ستباشر قصفها، ونراه تارة ينام في خزانة الملابس بعد صراع طويل مع الأرق، وتارة ثالثة يعرض نفسه لخطر الموت غرقاً في البحر وهو يتصور ابنه سامي الذي يخاف من الخوض في النهر، لقد استطاعت الكاتبة _ وهي بالأصل طبيبة نفسية _ أن تستثمر أعراض مرض ( اضطراب ما بعد الصدمة) في أحداث الرواية بشكل تام. فنوري وعفراء تجلى لديهما الشعور بتكرار الحدث، كما أنهما عانا من الأرق وقلة النوم إلى جانب ابتعادهما قدر الإمكان عن البشر، والعيش بعزلة تامة بالنسبة لعفراء، وشبه تامة بالنسبة لنوري، لنكتشف في نهاية المطاف أن العمى الذي أصيبت به عفراء كان ناجماً عن انفجار القنبلة وموت سامي بين يديها، وقد بدأت رويداً رويداً تسترد بصرها، ولنكتشف أيضاً أن نوري قد اختلق شخصية الطفل محمد في ذهنه كحالة تعويضية عن فقدانه لولده سامي وأن البِلْيَة التي تلعب بها عفراء طوال الوقت هي من ألعاب سامي وليست كما أخبرنا نوري أنها لمحمد، أما الصدمة التي جعلتهما يفترقان نفسياً عن بعضهما فقد تمثلت بحالة اغتصاب قام بها المهرب اليوناني لعفراء يوم نسي نوري مفتاح الغرفة التي تنام بها في مكتب المهرب الذي استغله بتوزيع المخدرات، وقد جعلته هذه الصدمة يعيش ليال طويلة مليئة بالهواجس والمخاوف والعزلة، حتى أنه يتصور وصول محمد في كل لحظة فيصنع له الوهم حكايات عديدة تجعله في حوار متخيل دائم مع محمد الذي يطلب منه مفتاحاً معلقاً على الشجرة فيتوهم نوري أزهار الشجرة كلها مفاتيح، ولم يستيقظ من اضطراباته هذه إلا بعد أن كاد يغرق في البحر، فيعود بعد نجاته من تلك الحادثة ليعتذر من عفراء. ولتلتقي أخيراً الخطوط المتوازية جميعاً بوصول مصطفى إلى المركز ليأخذهما معاً إلى يوركشاير حيث بقية العائلة والمنحلة الجديدة. أما الحالة الوحيد التي ساعدته في الحفاظ على ما تبقى من توازنه، فتمثلت بعثوره في الحديقة على نحلة مصابة بمرض الفايروس الجناحي إذ لا تستطيع الطيران، فيتعامل معها بكل رفق ويساعدها على البقاء حية بفضل خبرته في تربية النحل، وإذا أردنا تأويل رمزية هذه النحلة فسنجد بكل بساطة أنها تمثل المعادل الموضوعي له، فقد استمرت النحلة بالحياة بفضل مساعدته لها واستمر هو بالحياة بفضل مساعدة الآخرين له.تمثل هذه الرواية بتصوري إضافة مهمة لموضوعات الأدب الروائي من حيث كونها تعالج نفسياً الآثار المرضية الناجمة عن الصدمة، دون أن تخوض في التفاصيل والأبعاد السياسية، فالكاتبة في محصلة الأمر غير معنية بغير الأبعاد الإنسانية للقضية ويهمها أولاً وأخيراً سلامة الناس فهم مبلغ همها كما صرحت.

كلمة أخيرة: تستدعي الرواية ضرورة توثيق السوريين لسرديتهم، فالآخر يكتب من وجهة نظره المبنية غالباً على ما كرسته وسائل الإعلام الموجهة. التي ترسخ قناعة العالم بأن حرباً أهلية استعرت في سوريا في مارس 2011 ضاربة بعرض الحائط أبسط تعريفات الحرب الأهلية، لذلك بات من واجب كل سوري حر أن يكتب قصة معاناته، بغض النظر عن القيمة الفنية لما يكتب، عليه أن يصرخ في وجه العالم بالحقائق التي عاشها، خاصة ما حدث في السنة الأولى، سنة الثورة الحقيقية التي يحاول الجميع طمسها. ما جعلني ألفت النظر إلى هذه الضرورة غياب بعض الحقائق عن ذهن الكاتبة أو اعتمادها لمصادر غير موضوعية في ذكر بعض الأمور. فهي تقرر ومنذ البداية أن ما جرى هو حرب أهلية (وفي مارس من تلك السنة كانت الحرب الأهلية قد بدأت للتوّ مع اندلاع احتجاجات في دمشق) صـ29 وتعود في الصفحة 32 لتقرر (في تلك الليلة في أواخر الصيف، دمر المخربون خلايا النحل، إذ أضرموا فيها النار) أما من هم المخربون؟ فهذا هو السؤال الذي يطمس الحقيقة ففي ذلك الصيف لم تكن جبهة النصرة أو داعش قد دخلوا حلب التي دخلها الجيش الحر في صيف 2012 وإطلاق صفة التخريب على الجيش الحر في بداياته لم تكن تصدر إلا من الإعلام الأسدي ومن معه من شبيحة أو موالين. أما عندما تأتي على ذكر مجزرة نهر قويق فتكتفي بذكر كلمة الجنود بما فيها من عمومية مطلقة فقد أطلق الجنود النار على الرجال والصبية ورموهم في النهر.